حسن اليوسفي
تعود المواطن على سماع عبارات ومصطلحات أو شعارات يرددها المحترفون باستمرار، حتى أصبحت مألوفة، تتجاوز عتبة التداول لتصل إلى عالم الاستهلاك ودغدغة العواطف.
وبحكم التكرار والاجترارن تفقد مدلولها الطبيعي، وتتحول إلى ورقة ذابلة لا تجذب إليها الأنظار.
ومن أهم المواضع التي تدخل في هذا الإطار، والتي وقع الإجماع على ترويجها بشكل لافت، قضية العالم القروي، فلا يكاد يخلو خطاب موجه للعموم من ذكر العالم القروي، وهذا شيء جميل ومحمود، وإن كان متأخرا.
فإثارة الوضع الذي عليه العالم القروي، وتعداد المآسي التي يتخبط فيها، ومعاناة ساكنته البريئة والصابرة، إنما هو اندماج أني غير مبرر، وسعي لريح مكاسب ظرفية، واسترضاء لأصوات قد تكدس في صناديق الاقتراع عند الحاجة.
نحن الآن، قد تجاوزنا العقد الرابع من عهد التمتع بالاستقلال، ولم يكن العالم القروي غائبا عن اهتمامات الجميع، لقد قيل في البداية إن من الأولويات العمل على إيقاف الهجرة من البادية إلى المدينة، لأن الهجرة تعمل على إفراغ العالم القروي في ساكنته وترهق كاهل المدينة بسياحات في مدن القصدير والأكواخ وما يترتب عن ذلك من تراكمات بيئية وصحية وإنسانية واجتماعية.
ومن الهاجس المتمثل في حزام دور الصفيح وما تفرزه جيوبها من مخاطر شغلت المسؤولين لفترات طويلة فاهتموا ابتداعيات هذه الظاهرة وأهملوا المصدر المتسبب في هذه الآفة.
فالهجرة، وإلى الآن لم تتوقف، بل الإحصائيات تؤكد ازدياد أعداد النازحين نحو المدن المجاورة، سعيا وراء إمكانية توفير الحد الأدنى في الشغل والحصول على الضروري وفي العيش البسيط.
فالبادية كانت ومازالت أمام محطتين متقابلين، فإما هجرة منها وما ينتج عن ذلك عن تأثير سلبي في مختلف المجالات وبالتالي تفقد مقوماتها الذاتية في المجال الاقتصادي والاجتماعي.
وإما الاستقرار فوق الأرض نفسها وانتظار مستقبل مجهول لا يكاد البدوي يرى من خلاله الضوء المنعش والمنقذ، فالمشكل كان مطروحا وبحدة منذ البداية ثم تفاقمت بالتالي أزمة تبعات الهجرة على الواجهتين، تكس في ضواحي المدن وفراغ في البوادي.
وازدادت مع تعاقب السنين، أحوال البادية سوء وترديا من غير أن تظهر في الأفق بوادر التخطيط المعقلن لتنمية عالم تائه، وهكذا ترك الحبل على الغارب، فكان الهروب من جحيم لا يطاق وفقر لا يحتمل، وضيق في العيش، وتضييق في الحياة العامة.
ولم يبق أمام ساكنة البادية إلا الهروب والرحيل إلى ضواحي المدن، بعد التخلص مما يملكون من أمتعة بسيطة وأرض لا تسعفهم في شيء فوقها من لا علاقة له بالبادية، وبذلك أخذت المساحات الزراعية تتقلص وتعرف شكلا من التفتت الذي يتعارض مع كل نشاط فلاحي.
هاجر البدوي أرضه على مضض – بعد يأسه من كل إصلاح – وبعد معاناة قاسية، أضف إلى ذلك ما يقاسيه من ضغط سيكولوجي تعامل معه منذ عدة عقود ونما فيه بشكل مقصود، كالخوف من المسؤولين وقناعته بأن كل شيء يشتري بالمال : الوثائق الإدارية، القرض الفلاحي، المحافظة، الأمن، القضاء، النجاح في المدرسة، مصنب الشغل، الاستشفاء ...
فنحن الآن أمام محورين متقاربين في الشكل والنتيجة، تجمعهما ظاهرة واحدة هي البؤس والشقاء والغد المجهول.
ووضعية البراريك أو مدن الصفيح، وما تناسل عنها من سلوكات وتجارات وأسواق، هي نسخة من العالم القروي الجريح.
والذين لا يزالون متمسكين بالبادية، إنما يفعلون ذلك مكرهين، ويتسوقون لأدنى فرصة قادمة للالتحاق بمن سبقهم إلى ضواحي المدن، ليصبح لدينا نوعان من العالم القروي أحدهما تم تصديره إلى ما وراء محيط بعض المدن والآخر ما يزال أهله قابعين في مواقعهم في انتظار الحل الأفضل.
فالخطب والشعارات والوعود المتكررة لن تحل أزمة العالم القروي التي تزداد استفحالا مع مرور السنين.
ولحد الساعة، لن نسمع عن برنامج أو مخطط شمولي، لا من المسؤولين ولا من الأحزاب الملتزمة، يحدد أهدافا ومشاريع وأجندة مضبوطة، تجعل ساكنة العالم القروي تعيش فوق أرضها مطمئنة بعيدة عن التهريج والسياسة المغلوطة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق